
كنتُ هناك1
أديامان .. الموت بالاسمنت
غسان الشامي
تبدو مدينة “أديامان” وكأن وحشاً فولاذياً التهم الأجزاء الكبرى منها، وما أن تهم بالدخول إليها حتى تصفعك الأبنية التي سقطت على من فيها وكأن طبقاتها أرادت أن تموت دفعة واحدة.
وصلنا وقداسة البطريرك أفرام الثاني إلى مطار أورفه” الرها” أو ” شانلي أورفه” أو أورفه العظيمة، باكراً ، وتوجهنا إلى أديامان التي تبعد 170 كيلومتراً عن المطار، وتلوح عمارات الرها الشاهقة من بعيد متطاولة لتترك انطباعاً بأن التاريخ تغير ولم تعد أورفه مدينة ” الشمس والطين”.
رائحة الموت تجوب في الأرجاء، ومن بقي تحت الركام يحتاج إلى حفارة من فولاذ كي يدفن بشكل لائق، فيما تعمل الجرافات في كل مكان ويصدم نعيقها الهواء تاركاً للغبار احتلال الفسحات بين البيوت والتربّع فوق العمارات المهدمة، أما البنايات الملاصقة لأخواتها اللاتي سقطن، فقد فغرت حيطانها وكشفت أسرار من سكنوها، بينما ترنحت البيوت القديمة واتكأت ذات اليمين وذات الشمال..وقرب المتهدم وفي الساحات ساحات سوّيت على عجل كي تقبض عليها الخيم والغسيل المنشور على حبال المتبقي من الحياة كيفما اتفق ..غسيل الناس الذين نجوا بمرويات من الأعاجيب..هنا لكل أسرة أعجوبتها الخاصة بها، لكن عندما تعلم أن الرقم الرسمي للضحايا هو 20 ألفاً، وما يتناقله الناس هو 28 ألفاً، وأضعافهم من المصابين والجرحى ، لأن لا رقم مؤكدا حتى الآن، تسرُّ لنفسك أن ” زمن العجائب قد ولّى” ..إنه الإيمان أيها الناس.
وجه المحافظ(الوالي) لا يُقرأ ولا يكتب من شدة الحزن وحجم الدمار. مبنى المحافظة مسكون بالناس والغبار العاصي على التنظيف.
نذهب إلى كنيسة مار بطرس وبولس التاريخية فنجد أن الزلزال أباد حنيتها وصدع حجارتها القديمة وأنزل بعضها من علٍ تاركاً شقوقه تفعل فعلتها من السقف حتى الأديم، فيما اجتمع من بقي من أبناء منطقة الأوسروين..من ماردين وديار بكر ومديات وحاح وطور عابدين في ساحة الكنيسة..الجميع يستذكر الخوالي. . وهل في الخوالي غير الشقاء والصلاة!؟.ورغم كل ذلك ما يزال الإيمان يسري في نسغ من بقي على أرض ذلك الشمال الحزين.
أديامان اسمها القديم حصن منصور، (لمن لا يزال يهتم بالتاريخ)، تبلغ مساحتها كمحافظة 7614 كم2 ،تحدها محافظة ملاطية من الشمال ومرعش من الغرب، وعنتاب من الجنوب الغربي،وأورفه من الجنوب الشرقي، وديار بكر من الشرق، وهي من الأقاليم السورية الشمالية التي ضُمت إلى تركيا بموجب اتفاقية أنقرة بين فرنسا وتركيا مقابل اعتراف الأخيرة بالاحتلال الفرنسي لسورية .
مرّت حضارات كثيرة على هذه المنطقة فسكنها الحثيون والآراميون والمقدونيون والفرس والرومان والبيزنطيون والعرب والسلاجقة والمماليك والعثمانيون، وباتت حالياً ذات أغلبية كردية وازنة وأضحت محافظة عام 1954 بعد فصلها عن ملاطية، وفيها معالم سياحية منها جبل النمرود ، كما أنها ثاني مصدر للتبغ في تركيا.
إنها من مدن الثغور ، وقد سدّت هذه الثغور جميعها ، بينما جاء في كتاب الإدريسي ” نزهة المشتاق في اختراق الآفاق”: وبين سميساط وملطية مدينة صغيرة تسمى حصن منصور وهي حسنة مشهورة ولها رساتيق وقرى وبها خصب كثير .
ليس موضوعنا في التاريخ ، فهي “الأمور كما شاهدتها دول” ونحن لم يسرّنا زمنٌ على ما يبدو، لكن ما أوردته لتثبيت الموقع والصورة في الذهن، فمن تلك الدول لم يبقَ سوى النزر اليسير.
نغادر حصن منصور موَدعين بالغبار وأصوات الجرافات وبالأسى، وبالمناسبة تم تغيير الاسم لأن الأكراد كان يخطئون في لفظه فيسمونه حصن سمسور !!
على تخوم المدينة يطالعك مفرق عينتاب ، لكننا نكمل الطريق لنعرج على الرها قليلاً ، ثم لنعود عبر مطارها من جديد.ولهذا حديث يأتي لاحقاً.
من يوقف هياج الأرض ..أو هياجنا في إهانتها؟!
التحية لكم.
السبت 18شباط 2023
الڤيديو من حصن منصور( أيدمان)
الصور من كنيسة بطرس وبولس:.