لماذا يُعرف عن الاستراليين الميل إلى الاسترخاء؟

BBC

عرف عن الأستراليين، ومنذ وقت طويل، أن لديهم سلوك يميل إلى الاسترخاء، لكن ذلك لا يعود إلى مجرد ما يتمتعون به من مناخ مناسب.

في أحد أيام الأربعاء، وقبل غروب الشمس في شمالي مدينة سيدني، توقف كل العاملين في مكتبي عن العمل مبكراً ليمارسوا لعبة البولينغ بأقدام عارية تحت أشعة شمس الصيف. وهذه هي النسخة الأسترالية من لعبة البولينغ التقليدية على العشب الأخضر.

وحينما جاء دور المدير ليشتري المشروبات، طلب من أحد لاعبي الاحتياط أن يلعب مكانه. وبينما كان ذلك المدير الذي يدعى ديف داخل الحانة، كان أكثر من 20 من الزملاء يسخرون علناً من طريقة لعبه. وتعالى صوت المرح أكثر عندما عاد وهو يحمل صينية ملآى بأقداح الجعة الباردة ليشاركهم المزاح.

ربما كنا نلعب في أرضية ثاني أقدم نادٍ للعبة البولينغ في منطقة نيو ساوث ويلز، لكن لم تكن هناك أي سترات بيضاء رسمية، كالتي يرتديها اللاعبون. لكن فقط أقدام عارية، وأقداح الجعة. وكان الجميع يُنادون الآخر بكلمة ‘صديق’.

هذا المشهد ليس غريبا، فقد عُرف عن الأستراليين، ولوقت طويل، سلوكهم الذي يتسم بالتراخي والعفوية في الحياة، وفي كل مكان، بداية من نادي لعبة البولينغ هذا في سيدني إلى المقاعد الطويلة في البارات الأسترالية، مروراً بشواطيء رياضة ركوب الأمواج في مقاطعة فيكتوريا.

  • خمسة بلدان يعيش الناس فيها أطول الأعمار

تقول تانيا كينغ، المحاضِرة في علم الأنثروبولوجي بجامعة ديكن بمقاطعة فيكتوريا: “إنه مذهب المساواة الأسترالية، وروح الدعابة، ولغة التخاطب العفوية. وهذه أمور يُستشهد بها عموماً كأمثلة لهذا السلوك”.

لكنني أردت أن أعرف من أين نبعت مثل هذه التقاليد الأسترالية؟ وما الذي يجعل الأستراليين يتسمون بمثل هذه النمط من السلوك؟

وبحسب كينغ، فإن مشاعر “الصداقة” هذه – حيث يكون فيها الجميع سواسية- تتجذر في تاريخ استيطان الجنس الأبيض في هذا البلد. وتقول: “تنبع المساواة هذه من طريقة تكوين الأمّة” في استراليا”.

ثم أوضّحت أنه خلال عصر تأسيس أستراليا في أواخر القرن الثامن عشر، كان المستوطنون من المدانين بارتكاب جرائم يُعامَلون بقسوة، ويُحرمون من حقوق الإنسان الأساسية، من قِبل حكام المقاطعات وغيرهم ممن كانوا في السلطة.

ولم يتمكن هؤلاء، وأغلبهم من الطبقة العاملة من بريطانيين وإيرلنديين، من تولي مناصب مدنية، لأنها كانت تعطى للمهاجرين الذين لم تتلطخ يدهم بأي جرائم.

مصدر الصورةGETTY IMAGES
Image captionأصبح مبدأ المساواة من السمات التي تميز التقاليد الأسترالية

لهذا السبب، كانت روح المساواة تُعلّق كشارة شرف على صدر العديد من المستوطنين. وربما لم يكن هؤلاء من أصحاب النفوذ، أو التعليم، أو الثروة، لكنهم تشاركوا في الإيمان بالمساواة.

وما يثير الاهتمام هو أن المهاجرين الذين قدموا إلى أستراليا منذ أواسط القرن التاسع عشر من بلدان أقل اهتماما بقضية المساواة، مثل بريطانيا وايرلندا والصين، ربما كانوا قد لعبوا دوراً ما في خلق هذه الصفة الوطنية.

وتقول كينغ: “يأتي الناس إلى هنا ليبدأوا من جديد، وليتخلصوا من نظام طبقي كان يقسم المجتمع إلى طبقات وفئات في المملكة المتحدة، وغيرها من مناطق العالم”.

واستمرت خصال المساواة الأسترالية عبر القرن التاسع عشر وما بعده، وأصبحت علامة مميزة لتقاليد الشعب الأسترالي اليوم.

ولهذا السبب، وخلال تناول وجبة عشاء في أيٍّ من المطاعم الأسترالية الكثيرة، غالباً ما تُقسّم الفاتورة بالتساوي بين متناولي العشاء، مهما كانت فوارقهم الطبقية (وهذا أمر غير شائع في العديد من البلدان).

  • أثينا: المدينة الأوروبية المحبة للغرباء

ومع ذلك، تمر أوقات تصبح فيها مشاعر المساواة القوية هذه ذات تداعيات غير مرغوبة. ويظهر الأستراليون عادة مواقف أكثر انشراحاً وبهجة مما في داخلهم، وغالباً ما يُستهزأ بمن يحاول جاهداً إخفاء مشاعره.

وفي إحدى حلقات برنامج “آخر الليل مع سيث مايرز” في 2016، أشارت الشخصية التلفزيونية الأسترالية روبي روز إلى هذا الأمر، بعدما وصفها مضيّفها بكونها مشهورة، فقالت: “ستضعني في ورطة كبيرة لو قلت ذلك. لا يعجبهم سماع ذلك في بلدي”.

قدت سيارتي على “طريق المحيط الهاديء السريع” في رحلة من سيدني إلى ملبورن، وعند مرورنا ببلدات ساحلية مثل ولونغونغ، وناروما، ومالّاكووتا، صُدمت بإحدى الخصائص الأخرى المعروفة في أستراليا، والمتمثلة في اللغة العامية.

يُعتقد إن اللهجات العامّية للغة التي يستخدمها الأستراليون، مثل اللهجة تعرف باسم “أوكيريزم”، واختصارات الكلمات، تنبع كلها أيضاً من فترة قدوم المهاجرين. وقد كتبت سيدني بيكر، المختصة بعلم اللغة المقارن، في كتابها “اللغة الأسترالية”، أنه “لا توجد فئة اجتماعية أخرى ذات ذوق أفضل ممن يمكنهم ابتداع مصطلحات أجدد تتناسب مع ظروفهم المعيشية الجديدة”.

Image captionكانت أستراليا أول مكان في العالم يُطبق فيه يوم العمل لمدة ثمانِي ساعات فقط لتحقيق توازن بين العمل والحياة

وقد اختصرت المفردات العاميّة التي استعملها أبناء الطبقة العاملة في شرق لندن، عند قدومهم إلى هنا، بشكل كبير. واختُصرت عبارات التحية، لتصبح ذات حروف أقل. وحتى كلمة صحفي (جورناليست) أصبحت “جورنو”، وكلمة شواء (باربيكيو)، أصبحت “‘باربي”.

تعتقد الدكتورة تانيا لاكينز، المحاضِرة بمادة الدراسات الأسترالية في جامعة ديكن بمدينة ملبورن، إن هذا الأسلوب اللغوي هو دليل على ألفتنا وعدم الكلفة بيننا. وتقول: “يميل الأستراليون لعدم التكلف في الأمور”.

وقد لعبت الظروف القاسية في زمن المستوطنين الجدد دوراً في خصال الأستراليين وتمتعهم بروح الفكاهة الساخرة، وانتقادهم للذات بتواضع.

وفي حين تُعتبر الدعابة في الأوقات العسيرة ذوقاً متدنياً في الكثير من البلدان، يميل الأستراليون إلى رؤية الجانب الأكثر سخرية فيها. وفي نفس الرحلة على تلك الطريق، وبينما كنت أعبر حدود المقاطعات لأدخل مقاطعة فيكتوريا، قُدت السيارة عبر بعض الأشجار السوداء التي خلفتها حرائق الغابات.

وكانت إحدى علامات الطرق الاسترشادية تنبّه السائقين إلى وجود حيوانات برية، والتي نفق كثير منها بسبب الحرائق، وشاهدت ظهورا متميزا لخيال حيوان الكنغر وهو يقفز.

وقد رسم أحدهم، خلف تلك العلامة الاسترشادية على الطريق، صورة لهب يتصاعد من ذيل حيوان وكأنه يحترق – وربما يمثل ذلك تحويرا لكلمات أغنية أسترالية شهيرة للأطفال تحكي عن اشتعال النار في ذيل طائر عند وقوفه على الأسلاك.

وعندما أدركت ذلك، غلبني الضحك، وكان ذلك تذكيراً ذكياً بالعبارة التي يتناقلها الأستراليون “لا شيء يُرعبنا”، وحتى بمواقفهم المعارِضة للسلطة، وهو أمر وصفته الدكتورة كينغ لاحقاً بقولها “إنه جزء من سعينا للإخلال بالوضع القائم”.

ولعل ذلك يعبر عن الجانب السوداوي من خصائص ذلك البلد، والذي يظهر أن كل دعابة لا تعني بالضرورة الاستخفاف بالأمر، كما قد يبدو ظاهرياً.

يحب الأستراليون استغلال أوقات فراغهم بأفضل شكل ممكن

كما يوجد أمر آخر لا يمكنك تجاهله عندما تقود سيارتك في أنحاء أستراليا – وخاصة في الغرب، مقارنة بالسير في طرقات المتنزه الوطني التي سلكتها من سيدني إلى ملبورن – وهو وفرة المساحات الواسعة.

فهذا الأمر، بحسب لوكينز، بالإضافة إلى أمور أخرى مثل كثرة أوقات الفراغ والمناخ الملائم، تعلب جميعاً دورها في تصرفات الأستراليين التي تتسم بالتراخي.

وتضيف لوكينز: “نستطيع تتبّع أثر أوقات فراغنا السخية إلى خمسينيات القرن التاسع عشر. فقد كانت مقاطعة فيكتوريا أول مكان في العالم يُطبق فيه يوم العمل لمدة ثمانِي ساعات، لتخصيص ثمانِي ساعات أيضا للنوم، ومثلها للترفيه”.

ومع أن مثل هذا التوازن بين الحياة والعمل قد لا يراه البعض أمرا جيدا في هذه الأيام (وقد أظهرت بيانات “المكتب الأسترالي للإحصاء” في عام 2007 أن ثلث الأستراليين يعملون في أوقات “غير ملائمة اجتماعياً”)، إلا أن أستراليا لا تزال أمة تستفيد من وقت فراغها قدر المستطاع.

وعند وصولي إلى ملبورن في وقت متأخر من عصر يوم عمل عادي، كانت الضواحي مكتظة بآباء وأبنائهم وهم يلعبون لعبة الكريكيت في الشوارع (مستخدمين سلال القمامة كدعائم)، بينما كانت مجاميع من الأصدقاء في “الحدائق النباتية” تستمتع بتحضير المشويات بعد ساعات العمل، وتحتسي الجعة تحت أشعة الشمس.

لقد أحسست أنا أيضاً في هذا الوقت براحة واسترخاء، ووجدت من السهولة القول إن انتشار هذه الصورة النمطية الشائعة عن استرخاء الأستراليين هي صورة حقيقية فعلا، لكن كما تقول كينغ، إنه في الواقع خليط من العمل والاسترخاء معا.

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن