ماذا يحدث عندما يصبح الاستثمار الأجنبي خطرًا أمنيًا؟

ماذا يحدث عندما يصبح الاستثمار الأجنبي خطرًا أمنيًا؟

ترجمة وتحرير: نون بوست

تعد الولايات المتحدة هي أكبر مستثمر أجنبي مباشر في العالم وأكبر مستفيد من الاستثمار الأجنبي المباشر “إف دي آي”، إلا أنها تسعى – مثل كل دولة ذات سيادة – إلى تخفيف احتضانها للأسواق المفتوحة مع حماية مصالحها الأمنية الوطنية، وهو التوازن الذي تغير بمرور الوقت ويتم تحقيقه من خلال العمل على وضع قيود معينة على الاستثمار الخارجي في القطاعات الحساسة استراتيجيًا من الاقتصاد الأمريكي.

تأسست لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة في سنة 1975، وهي لجنة قوية تتكون بالاشتراك بين الوكالات؛ حيث تقوم بفحص المعاملات الأجنبية مع الشركات الأمريكية بحثًا عن مخاطر أمنية محتملة، فيما وسع المشرعون صلاحيات اللجنة في سنة 2018 وسط موجة متزايدة من الاستثمارات الصينية، وفي سنة 2022، أصدر الرئيس جو بايدن المجموعة الأولى من المعايير المُحَدِدة للجنة لتحديد تهديدات الأمن القومي، وفي الوقت نفسه، تقوم دول غربية أخرى، من أستراليا إلى المملكة المتحدة، بتشديد رقابتها على الاستثمارات الأجنبية.

كيف تستفيد الولايات المتحدة من الاستثمار الأجنبي؟

وتقود واشنطن تقليديًّا الجهود الدولية لإزالة الحواجز أمام تدفقات رأس المال عبر الحدود بهدف توسيع فرص الاستثمار للشركات الأمريكية متعددة الجنسيات وخلق نظام دولي أكثر استقرارًا وكفاءة، بينما تعتمد الولايات المتحدة بشكل كبير على التدفقات الأجنبية الوافدة لتعويض النقص في المدخرات في الداخل، وهي تصنف بشكل روتيني من بين الوجهات الأكثر تفضيلا للمستثمرين الأجانب المباشرين؛ حيث يلعب الاستثمار الأجنبي المباشر- ملكية أو سيطرة كيان أجنبي بنسبة 10 في المائة أو أكثر من مؤسسة محلية – دورًا مهمًا ومتزايدًا في الاقتصاد الأمريكي.

ووفقًا لبحث أجرته وزارة التجارة؛ فقد وفر الاستثمار الأجنبي حوالي 16 مليون وظيفة في الولايات المتحدة في سنة 2019، أو 10.1 بالمئة من إجمالي القوى العاملة، وتدفع الشركات الأجنبية رواتب أعلى من منافسيها المحليين في المتوسط، إضافة إلى مشاركتها بشكل غير متناسب في التصنيع.

ما هي المخاوف بشأن الاستثمار الأجنبي؟

عادة ما ترتبط المخاوف المتعلقة بالمعاملات الأجنبية بعمليات الاندماج والاستحواذ والاستيلاء على الشركات المحلية بدلًا من الاستثمارات الجديدة، والمعروفة باسم الحقول الخضراء؛ لذلك أصدرت حكومة الولايات المتحدة – مثل نظيراتها في جميع أنحاء العالم – تشريعًا يُمَكِن الوكالات الفيدرالية من مراجعة الصفقات الأجنبية التي يمكن أن تتسبب في الاستعانة بمصادر خارجية كبيرة للوظائف، وفقدان السيطرة على سلاسل التوريد الزراعية، ومشاركة التقنيات الحساسة، أو ضعف البنية التحتية الحيوية.

لكن العديد من الاقتصاديين يحذرون من أن فرض قيود مرهقة على تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر قد يلهم سياسات انتقامية من قبل دول أخرى، وهو ما حاولت الدول الأعضاء الـ 38 و الـ12 غير الأعضاء في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية “أو. إي. سي. دي” تجنب ذلك من خلال التوقيع على التعهد غير الملزم بمعاملة الشركات الخاضعة للسيطرة الأجنبية على أراضيها معاملة لا تقل تفضيلا عن الشركات المحلية؛ ومع ذلك، فإن الحكومات بموجب هذا الاتفاق تُمنح مجالاً واسعاً لإعفاء قطاعات من اقتصاداتها تعتبر ضرورية للأمن القومي؛ حيث تعرف البلدان هذه “البنية التحتية الحيوية” بطرق مختلفة، لكن معظم التعريفات تشمل الخدمات والأصول التي إذا تعطلت سيكون لها تأثير سلبي كبير على اقتصاد البلد أو أمنه القومي.

وقال آلان بي لارسون وديفيد إم مارشيك، خبيرا الاستثمار الدولي، اللذان شاركا في تأليف تقرير خاص للمجلس سنة 2006 حول هذا الموضوع، إن ملكية الدولة للشركات متعددة الجنسيات غالبًا ما تكون حميدة، إلا أنهما لاحظا أن المخاوف تنشأ “عندما تصبح قرارات الشركة الأجنبية امتدادًا لقرارات السياسة الحكومية بدلًا من المصالح التجارية للشركة، مستشهدين بما قامت به شركة الطاقة الروسية العملاقة غازبروم في سنة 2006 لقطع إمدادات الغاز إلى أوكرانيا كخطوة تحذيرية، والتي اعتبرها بعض المراقبين الغربيين قرارًا ذا دوافع سياسية.

في الآونة الأخيرة، أثار القادة في أوروبا والولايات المتحدة مخاوف بشأن استثمارات الشركات الصينية الكبيرة التي تتأثر عملياتها بالحزب الشيوعي الصيني الحاكم؛ حيث أصبح صانعو السياسة في الولايات المتحدة حساسين تجاه المحاولات الصينية لاكتساح التقنيات الحيوية أو التقنيات المتقدمة التي تعتبرها الحكومة مهمة للأمن القومي، فيما اتهم مسؤولون بكين بنقل التكنولوجيا بشكل قسري أو مطالبة الشركات الغربية بمشاركة التكنولوجيا من أجل القيام بأعمال تجارية مع الشركات الصينية؛ لذلك اتخذ كل من الرئيسين دونالد ترامب وبايدن خطوات لتقييد استحواذ الصين على التقنيات الأمريكية المتقدمة، مشيرين إلى دورها المحتمل في الحشد العسكري الصيني والسيطرة على سلاسل التوريد الحيوية.

كيف تطورت مراجعة الاستثمار الأجنبي؟

تطورت الرقابة الفيدرالية على الاستثمار الأجنبي بمرور الوقت، التي تمت غالبًا استجابة للظروف الاقتصادية والأمنية المتغيرة. وكان الرئيس جيرالد فورد قد أنشأ لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة “جي. أف. آي. يو. إس” في سنة 1975 وسط الاستثمارات المتنامية من قبل أعضاء منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) في الولايات المتحدة، وهو ما اعتبره العديد من صانعي السياسات مشكوكًا فيه؛ حيث شعر الكثيرون في واشنطن، في السنوات التالية، أن اللجنة كانت أقل التزامًا مما كان يجب أن تكون عليه.

وفي سنة 1988، عزز الكونجرس عملية مراجعة اللجنة بتمرير تعديل إكسون فلوريو لقانون الإنتاج الدفاعي لسنة 1950. ومثلما حدث في العقد الماضي، نشأ الإصلاح عن القلق من الاستثمار الأجنبي المتنامي – الياباني هذه المرة – في الصناعات الأمريكية الحساسة، بما في ذلك محاولة من شركة الكمبيوتر العملاقة فوجيتسو لشراء شركة فيرتشايلد لصناعة أشباه الموصلات التي تتخذ من الولايات المتحدة مقرًا لها.

وحوّل قانون إكسون فلوريو لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة إلى هيئة مراجعة قوية ومنحت الرئيس سلطة بعيدة المدى لمنع الاستحواذ الأجنبي على أسس “الأمن القومي” بشكل موسع؛ حيث لا تتطلب القرارات التنفيذية موافقة الكونغرس ولا يمكن مراجعتها قضائيًا.

وقام قانون الاستثمار الأجنبي والأمن القومي لسنة 2007 (فينسا)، والذي صدر في أعقاب فضيحة موانئ دبي العالمية في شباط \ مارس 2006، بتعديل  لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة مرة أخرى، وسط موجة من المعارضة السياسية الأمريكية؛ حيث أحبطت اللجنة سيطرة الشركة – المملوكة للإمارات ومقرها دبي – على الموانئ الأمريكية الرئيسية، وهي الصفقة المثيرة للجدل التي اعتبرها الكثيرون في الكونجرس بأنها ستزيد من خطر وقوع هجوم إرهابي على الولايات المتحدة، وذلك على الرغم من موافقة الرئيس جورج دبليو بوش ولجنة الاستثمار الأجنبي سابقًا على الصفقة؛ لذلك قدمت (فينسا) للكونغرس رقابة أكبر على لجنة الاستثمار الأجنبي، ووسعت المعنى القانوني لـ”الأمن القومي” ليشمل البنية التحتية الحيوية، وطلبت من اللجنة التحقيق في جميع صفقات الاستثمار الأجنبي التي يكون الكيان الخارجي مملوكًا أو خاضعًا لسيطرة قوة أجنبية.

وفي سنة 2022، وقع بايدن أمرًا تنفيذيا يقدم أول صياغة صريحة لمخاطر محددة يجب على لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة  مراعاتها؛ حيث وضع خمسة معايير لمراجعة أية صفقة محتملة، وهي: التأثير على سلاسل التوريد الأمريكي، بما في ذلك تلك التي لا علاقة لها بالدفاع، والتأثير على قيادة الولايات المتحدة في التقنيات المتقدمة، وهل تقع الصفقة ضمن اتجاهات الاستثمار في الصناعة، ومخاطر الأمن السيبراني التي يمكن أن تنشأ عن الصفقة، والمخاطر على البيانات الخاصة للأشخاص في الولايات المتحدة.

ما هو الدور الذي لعبته زيادة الاستثمارات الصينية؟

وأصبح المشرعون والمسؤولون الأمنيون قلقين بشكل متزايد بشأن نمو الاستثمارات الصينية في الشركات الأمريكية، التي بلغ قيمتها الإجمالية أكثر من 180 مليار دولار منذ سنة 2005، وقد شجبت الإدارات الأمريكية المتعاقبة سياسة صنع في الصين 2025 الصناعية، والتي من خلالها تعزز بكين الاستثمار الصيني في شركات التكنولوجيا الأجنبية لتطوير قطاع التصنيع عالي التقنية في الصين بسرعة. وفي سنة 2022، أدرك بايدن أن “بعض الدول تستخدم الاستثمار الأجنبي للوصول إلى البيانات والتقنيات الحساسة لأغراض تضر بالأمن القومي الأمريكي”.

وقامت لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة بتوسيع نطاق رقابتها في السنوات الأخيرة، مما جعل المزيد من الصفقات خاضعة لاختصاصها. ففي سنة 2016؛ وسعت الهيئة عملية المراجعة الخاصة بها لتطبيق المزيد من الرقابة على ما يسمى بالمعاملات غير المبلغ عنها – أي الصفقات التي لم يتم تسجيلها مع اللجنة.

وفي سنة 2018؛ أقر الكونجرس – ووقع ترامب – قانون تحديث مراجعة مخاطر الاستثمار الأجنبي (FIRRMA)، والذي وصفه العديد من الخبراء بأنه أهم إصلاح تقوم به سلطات الهيئة منذ سنة 1988؛ حيث يسمح قانون تحديث الاستثمار الأجنبي للجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة مراجعة مجموعة واسعة من الصفقات، بما في ذلك أي استثمار “غير سلبي” في الشركات الأمريكية العاملة في مجال التكنولوجيا الحيوية أو القطاعات الحساسة الأخرى، كما أنه يمدد فترة المراجعة ويمنح لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة مساحة أكبر لتجميد المعاملات ويزيد التمويل والوظائف للهيئة وله صلاحية في إدارة عملية منفصلة لمراجعة تصدير التقنيات الأمريكية الحساسة.

وفي حين أن التشريع لم يستهدف بكين بالاسم؛ فقد انخفض الاستثمار الصيني في الولايات المتحدة منذ أن أصبح قانونًا. ووفقًا لبيانات لجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة؛ انخفض تسجيل المعاملات من المستثمرين الصينيين بنسبة 43 في المائة في فترة السنتين بعد تمرير التشريع إلى ما متوسطه 32 بالمئة سنويًا.

ترجمة وتحرير: نون بوست