منتدى دافوس..عواصف اقتصادية لعالم مُشرذم وعدالة غائبة تنذر بالأسوأ

نون بوست – تأتي النسخة الحاليّة لمنتدى دافوس في ظرف استثنائي محفوف بالمخاطر
انطلقت أعمال المنتدى الاقتصادي العالمي “دافوس 2023″، الإثنين 16 يناير/كانون الثاني الحاليّ، بمشاركة أكثر من 2500 شخصية اقتصادية وسياسية، من بينها 52 رئيس دولة وحكومة، وسط حالة ترقب معمقة إزاء التحديات الجسام التي تواجه الاقتصاد العالمي وتزيد من معاناته ومخاطر ما هو قادم.

المنتدى الذي يقام في منتجع دافوس بجبال الألب في سويسرا، حيث يرتفع نحو 1560 مترًا فوق سطح البحر، خلال الفترة من 16 – 20 من الشهر الحاليّ، يأتي في ظروف استثنائية على كل المسارات، حروب مشتعلة، وهزات مناخية مدمرة، وأزمات اقتصادية طاحنة، أحدثت شرخًا كبيرًا في خريطة العالم الاجتماعية، في ظل حالة من الضبابية يصعب معها التوصل إلى حلول عاجلة لوقف هذا النزيف المتصاعد الذي يزج يوميًا بمئات الآلاف إلى آتون الفقر المدقع.

كانت النسخ السابقة من المنتدى تركز وبشكل محوري على سبل التقدم والنهوض، وكان المشاركون يحملون رؤى وبرامج أكثر تفاؤلية مهما كان الوضع محتدمًا، إلا أن الأمر في النسخة الحاليّة مختلف للغاية، فجدول الأعمال مثقل بالملفات الصادمة، في محاولة لتقليل وقع وتأثير الأزمات التي يعاني منها العالم، وبات التفكير في تحسين الوضع رفاهية غير مدرجة على طاولة النقاش.

كل التقارير الصادرة عن المؤسسات الاقتصادية الكبيرة، التي خرجت للأضواء تزامنًا مع انطلاق فعاليات المنتدى، تحذر من زيادة المخاطر، وتطالب الجميع بتوحيد الرؤى وتبني إستراتيجيات عاجلة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، يتساوى في ذلك البلدان الغنية والنامية، إلا أنه وفي ظل تلك المعمعة الفوضوية التي يعاني منها المشهد الاقتصادي العالمي، يستحوذ 1% فقط من البشر على 63% من الثروات، في تناقض فج يفضح السياسات الاقتصادية الخاطئة التي يتبناها العالم وساهمت بشكل أو بآخر، بجانب الأزمات المستجدة، في تفاقم الأزمة.

ظرف استثنائي
لم تشهد نسخة سابقة من المنتدى تلك الأجواء الملبدة بالغيوم كالتي تشهدها النسخة الحاليّة، حيث استمرارية تداعيات جائحة كورونا (كوفيد 19) التي ما زال العالم طيلة السنوات الثلاثة الأخيرة يدفع ثمن معاناتها يومًا تلو الآخر، تلك الجائحة التي أطاحت بالملايين من وظائفهم وقلصت مدخرات آخرين وأصابت الاقتصاد العالمي بالشلل التام لفترات ليست قصيرة.

كما أنها تتزامن والحرب الروسية الأوكرانية التي أوشكت على دخول عامها الأول (انطلقت في فبراير/شباط 2022)، تلك الحرب التي عمقت الأزمة الاقتصادية، فقفزت معدلات التضخم والبطالة والفقر بسرعات جنونية، وبات الأمن الغذائي مهددًا، وعشرات الملايين في أوروبا يواجهون شتاءً مخيفًا بسبب أزمة الطاقة، ودخلت خطوط الصناعة العالمية منعطفًا خطيرًا من الجمود، فيما شهد الاقتصاد العالمي في مجمله حالة من الركود لم يشهدها من قبل.

تطورات جيوساسية أخرى ألقت بظلالها على المشهد تزامنًا مع انعقاد المنتدى، على رأسها تسخين الأجواء بين واشنطن وبكين بسبب الملف التايواني الذي وصل إلى مستويات من التصعيد غير مسبوقة، تجاوزت حاجز التلاسن الكلامي والحرب الإعلامية إلى التهديدات العسكرية الواضحة، ما كان له صداه على الاقتصاد بطيعة الحال.

النزاع بين المعسكرين، الغربي والشرقي، بعيدًا عن الحرب الأوكرانية، يحتل مكانة كبيرة في خريطة التطورات العالمية خلال الآونة الأخيرة، فالصدام التاريخي المستمر بين الصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران من جانب، وأوروبا والولايات المتحدة من جانب آخر، الذي تخطى المرحلة الدافئة في بعض الأحيان، ينذر بكوارث وتهديدات ومخاطر ألقت بظلالها على المشهد فعمقت من الأزمة الاقتصادية.

كما ينعقد المنتدى في ظل كوارث بيئية وضعت الأمن الغذائي العالمي على المحك بسبب التغيرات المناخية التي زادت من معدلات الجوع والفقر والنزوح واللجوء، ومن ثم أثقلت كاهل المجتمع الدولي بحزمة من المخاطر تهدد التماسك المجتمعي الإنساني العالمي قبل أن تزيد من مرارة الواقع الاقتصادي والمعيشي.

كل تلك التطورات جعلت من النسخة الحاليّة لدافوس نسخة استثنائية على المستويات كافة، وفرضت مسؤوليات إضافية على كاهل المشاركين، خاصة الكيانات الاقتصادية الكبيرة، المنوط بها تحريك المياه الراكدة في هذا المستنقع العفن، قبل أن يتحول إلى ثلوج ثم يهبط بالجميع في القاع حيث لا ناجين.

أبرز القضايا المطروحة
تهيمن التوترات الاجتماعية الناتجة عن الأزمة الاقتصادية على قائمة أولويات المشاركين في المنتدى، وهو ما عبرت عنه بشكل واضح المديرة العامة لصندوق النقد كريستالينا غورغييفا، التي أكدت أن العالم الحاليّ قد يشهد توترًا اجتماعًا على المستوى العالمي، ملمحة إلى تداعيات السياسات المالية المتبعة مؤخرًا على التوظيف وزيادة معدلات البطالة.

غورغييفا في تصريحات صحفية لها قبل 5 أيام قالت: “نحن في 12 يناير/كانون الثاني فقط ولدينا من الآن (نماذج) في البرازيل والبيرو وبوليفيا وكولومبيا والمملكة المتحدة، وكل ذلك لأسباب مختلفة، لكن مع توترات اجتماعية واضحة جدًا”، لافتة إلى أن ارتفاع أسعار الفائدة، وهو التوجه العالمي مؤخرًا لمواجهة التضخم وجذب الاستثمارات، سيؤثر حتمًا على أسواق العمل في نهاية المطاف، وهو ما قد يؤدي إلى زلزال كبير في منظومة الاستقرار المجتمعي.

وكالة “بلومبيرغ” استعرضت في تقرير لها أبرز الملفات والقضايا المتوقع أن تفرض نفسها على جدول أعمال المنتدى في نسخته الحاليّة، على رأسها ملف الطاقة، هذا الملف الذي يعتبره البعض جوهر الحرب الاقتصادية التي تخوضها روسيا اليوم أمام المعسكر الغربي، بعدما اتضحت قوة هذا السلاح وتأثيره النفاذ على الشارع الغربي.

وتذهب كل التقارير والمؤشرات إلى أن هذا العام ربما يشهد أزمة طاقة خانقة، بسبب وقف الإمدادات الروسية للغرب، وهو ما بدا يلوح في الأفق منذ عدة أشهر، حيث تعاني أوروبا تحديدًا التي تعتمد على الغاز الروسي في تلبية أكثر من 40% من احتياجاتها من تفاقم تلك الأزمة التي أدت إلى عشرات الاحتجاجات الشعبية في كبريات المدن الأوروبية، وتنذر بندرة واضحة في المعروض من الطاقة وحصة المواطن هناك، ما تسبب في تجميد الكثير من الأنشطة الاقتصادية.

المشاركون في إعداد تقرير المنتدى من نخبة الخبراء الاقتصاديين في العالم، توقعوا استمرار أزمة تكلفة المعيشة خلال العامين المقبلين، لافتين إلى أنها واحدة من أشد المخاطر العالمية حتى عام 2025

الملف الإستراتيجي الآخر – بحسب بلومبيرغ – يتعلق بأشباه المواصلات، التي باتت مكونًا أسياسيًا في الصناعات المستقبلية وفي المقدمة منها صناعة السيارات الكهربائية والصواريخ البالستية وتقنيات الذكاء الاصطناعي، وتحولت الرقائق في مجملها إلى معادن حروب ذات أهمية إستراتيجية، وأحد مغذيات النزاعات المستقبلية، وقد أفرد “نون بوست” لذلك ملفًا كاملًا تحت عنوان “حروب المعادن”.

أمريكا خلال الآونة الأخيرة أطلقت برنامجًا لدعم صناعة الرقائق المحلية بقيمة 52 مليار دولار، فيما فرضت قيودًا مشددة على الدول المستوردة وعلى رأسها الصين، لوقف زحفها الاقتصادي التقدمي، والحفاظ على الاحتياطي المتاح من تلك الثروات التعدينية، وفي المقابل تحاول بكين فتح منافذ جديدة لها للحصول على تلك المعادن التي تشكل عصب اقتصادها الحاليّ، وهو ما يفسر تعزيزها للتعاون والتقارب مع القارة الإفريقية التي تمتلك الجزء الأكبر من تلك الثروات.

كما يأتي الدولار ليكون ضمن جدول الأعمال المقترح، خاصة بعد المسار الذي تحاول بعض الدول – وأبرزها الصين وروسيا وإيران – تبنيه، ويقضي بالتخلي مرحليًا عن سلطة العملة الأمريكية وبدء التعامل بعملات أخرى، في محاولة للتخلص من توظيف أمريكا لعملتها لتحقيق أهدافها الإستراتيجية، وهو التحول الذي إن حدث – رغم صعوبته ميدانيًا – سيحدث تغيرات كبيرة في خريطة العالم الاقتصادية، ومن ثم تضع واشنطن هذا الملف ضمن أولوياتها، ليس على طاولة دافوس فقط، لكن خلال المرحلة المقبلة بشكل عام.

وفي إطار التسخين بين الصين والولايات المتحدة، يفرض الملف التايواني نفسه على جدول الأعمال، وسط خشية قادة العالم من أن تكون الجزيرة الصغيرة جبهة حرب جديدة بين المعسكرين، الشرقي والغربي، الأمر الذي قد يزيد من تفاقم الأزمة ويدخلها إلى طريق مسدود، علمًا بأن الأزمة ليست سياسية كما يعزف المحللون، فهناك بعد اقتصادي لا يقل أهمية، إذ إن تايوان تعتبر موطنًا لأكبر صانع للرقائق في العالم، مما يزيد اللهث عليها من الأمريكان والصينيين على حد سواء