يا رؤوساء العالم:أخاطبكم من بيونغ يانغ

الدكتور نسيم الخوري

يقودنا إنحسارالأحادية الدولية وتعدديّة العظمة الدولية والعبث الأميركي بأقاصي الشرق ومشاعية الحروب وفوران الإرهاب الإسلامي في العالم الى معادلة أو تحذير أو مقدّمة أو نداء جديد في العلاقات الدولية لرؤساء العالم: لا تستهينوا بالدول الصغيرة فقد يشعّل أحراش العالم عود ثقابٍ صغير. وأضيف:

يبدو القوي ضعيفاً بسبب تردّده، ويبدو الضعيف قويّاً بسبب جرأته وجروحه التاريخية. يمكن  ربط هذه المعادلة بالرعب النووي الشائع منذ هيروشيما الى بيونغ يانغ حيث تتطلّع الدول الصغيرة والمجموعات الإرهابية الى إقتناء هذا السلاح والتهديد به بعدما فتحت خزائن العلوم والأذهان والحروب المتنقّلة في فوضى كان لا يمكن أن تصلها البشرية. أكتب عن بيونغ يانغ من داخل وقد مكثت فيها أكثر من شهر.

لماذا أكتب عن كوريا الشمالية.؟

1-   أكتب عنها ليس لأنّها الحدث الملتهب الذي شدّ العيون البشرية لتراها النقطة المضيئة الأخطر المهدّدة بحربٍ عالمية. لن يرى العالم هذه الدولة في وقتٍ تقول عنها الأقمار الصناعية عند رؤيتها أنّها نقطة سوداء مظلمة لا كهرباء فيها في الليل.  لا إنترنت ولا إتّصال مع العالم الخارجي. ما يكتب عنها وعن رؤسائها الثلاثة الجدّ المؤسّس كيم إيل سونغ، وولده كيم جونغ إيل وحفيده الرئيس الحالي كيم جونغ أون (درس في سويسرا ويعشق الجبنة الفرنسية ويدخّن ويشرب بنهم وهو أصغر رئيس دولة في العالم32 سنة) فاق حدّ الأساطير والغرائب والعجائب التي لم أعاينها. سبق لجورج بوش أن أعلنها معقل الإستبداد الأخير وجزءاً في “محور الشرّ” العالمي وكأنّ الإستبداد قد زال من العالم. لقد سبقت كوريا أميركا أن أعلنت منذ عقد إستعدادها لنشر صاروخين باليستيين قادرين على بلوغ الأراضي الأميركية للمرّة الأولى كما نشرت مجلّة”جينز البريطانية” في 23 أيلول 2007 وأوضحت بأنّ الصاروخ الأوّل يطلق من قاعدة أرضية ثابتة ، ويقدّر مداه بين 2500  و 4000 كلم. أمّا الثاني فيمكن إطلاقه من غوّاصة أو سفينة ويصل مداه الى 2500 كلم. وجاء في “جينز” أنّ النظامين هما تطوير لصاروخ روسي معدّل، وهو الصاروخ الباليستي “أر 27”.

2-   أكتب عن كوريا الشمالية لا لأنّها أرعبت العالم الأحد 3 أيلول 2017 عندما نجحت في تحدّيها السادس بأكبر تجربة نووية في تاريخها، وتمكنت من تفجير قنبلة هيدروجينية، كان يمكن تحميلها على صاروخ باليستي.  وقع التفجير على الصين وكأنّه هزة أرضية 6.3 درجة على مقياس ريختر حسب اليابان . هي التجربة التي تحمل قدرة تدميرية أكبر بكثير من القنبلة النووية التي تعتمد على مبدأ انشطار ذرات اليورانيوم أو البلوتونيوم. أكتب عنها لأنّني عندما وصلت الى عاصمتها بيونغ يانغ عبر موسكو بدعوةٍ رسمية في العام 1986 وكانت بقيادة كيم إيل سونغ ، كان المشهد الجوّي الأوّل الذي أسرني أنّ لا بقعة جرداء  في كوريا فالإخضرار عندما تهبط قد يصدمك ويستنفر ضجرك بمرور الوقت وكأنّها جنّة خارج الدنيا. الكلمة الأولى التي سمعتها أنّ بلادهم تحوّلت رماداً وأمر كيم إيل سونغ بجعل مساحتهاال120 ألف كلم مربّع سجّادة خضراء أوّلاً. قيل لنا أنّ أوّل إنجاز صناعي كان جراراً زراعياً لم يسري إلى الأمام بل الى الخلف. وعندما طلبت الإيضاح قالوا: بدأنا بجّرار يسير الى الخلف وسنصل الى النووي ذات يوم. أكتب عنها لأنّني زرتها باحثاً ومكثت فيها 42 يوماً وبحوزتي الكثير من المدوّنات الشخصية والسياسية تشكّل مادة دسمة لكتابٍ مثير وموضوعي يغاير بكثير ما يظهر عنها الآن. لماذا زرتها؟  بدعوةٍ رسميّة وقد كان والد زوجتي نائب بيروت فريد جبران رئيس لجنة توحيد كوريا في لبنان بعدما أقرّ له البرلمان اللبناني  بالإعتراف بكوريا الشمالية.

3-   أكتب عنها ليس لأنّ أعضاء مجلس الأمن قد صوّتوا بالإجماع الاثنين (12 الجاري) على مشروع قرار بفرض عقوبات جديدة أكثر قساوةً ممّا سبقها على كوريا الشمالية تقدمت به الولايات المتحدة ردا على تجربتها السادسة الأكبر في تاريخها. وليس لأنّ قرار العقوبات هذا جاء رغم تحذيرات بيونغ يانغ من أنها ستلحق بواشنطن “الألام الكبرى” إذا فرضت عليها عقوبات جديدة. هذا مع العلم بأنّ الإجماع الدولي جاء معطوفاً على دعوات بوتين للحوار تفادياً “لكارثة عالمية” الى تأرجح ترامب الأميركي بين مسح كوريا عن خارطة العالم ثمّ إزاحة العمل العسكري من البال كخيار أوّل الى دعوة رئيس الصين شي بتجنّب الأقوال والأفعال الحادّة. أكتب عنها لأنّنا نقيم في زمنٍ مشرّع على الحروبٍ المفتوحة المشابهة والمتنقّلة في الحقائب المحشوّة بالألغاز والأهداف والتحوّلات بما يبرز معادلة الأقوياء والضعفاء أكثر تعقيداً مع تفشّي الإرهاب، ويعيد نبش التاريخ وكلمات السرّ الباردة بين

4-    يمكنّني الكتابة بإختصار أنّ ال25 مليون نسمة في كوريا الشمالية يتشابهون بالشكل والنحول واللباس ونمط الحياة والقناعات بأنّ الصراع بين الكوريتين لم يكن نتيجة حربٍ أهلية بل لتدخّلات الخارج. كانت الحرب الكورية المدموغة في ذاكرتهم وأجنّتهم منذ ال1950 أول مواجهة مسلحة تصارعت فيها قوى الحرب الباردة وأورثت صراعات ومآسٍ كثيرة متتالية وقعت بعد تقسيمها لثلاث سنوات. بدأت العمليات العسكرية في 25  حزيران  1950، وتوقفت بتوقيع الهدنة في 27  تمّوز 1953. ونشب هذا الصراع بمحاولة كلا البلدين ضم الطرف الاخر إلى حكومته، وأدى ذلك إلى اندلاع حرب واسعة النطاق كلّفت الجانبين أكثر من مليوني ضحيّة. كانت تلك الأرض ميداناً نموذجيّاً لما صار يعرف بتجارب الحروب بالوكالة حيث تتصارع القوتان العظميان في حرب تقوم فوق دولة أخرى وتورث هذه الحروب الدمار الكبير والهلاك والمواطنون شاغلو الدول الصغيرة مرغمون على خوض حروب هي اصلا حرب بين قوى خارجية. كانت القوى العظمى في حينها تتجنب الانزلاق في حرب مباشرة شاملة بينهما، فضلا عن تكرار استخدام أسلحتهما النووية

5-   أكتب للتذكير أنّه بعدما توصّلت إيران الى إتّفاق مع دول مجموعة ال6+1 عبر مفاوضات طويلة، خرجت كوريا الشمالية لتعلن أنّها غير مهتمّة بأي علاقة مع العالم على غرار إيران، معتبرةً أنّ النووي لديها هو رادع ضروري ضدّ عدائية أميركا ومعلنةً” إنّنا قوة نووية والقوى النووية لها مصالحها الخاصة”.

ترتفع أصوات كثيرة معارضة لإيران في الغرب والشرق، تتّهم طهران وكوريا الشمالية بالتعاون القديم الواسع والمتجدّد في مجال السلاح النووي والصواريخ الباليستية، وتشير الى قيام البعثة النووية الكورية بزيارات ثلاث الى طهران في 2015. وتذهب التحليلات الى القول بسياسة التكامل والتعويض المتبادل الملغز بين الدولتين. لكن مهما صدقت الأسباب وتعدّدت،  يفترض بالكتابة عن الكوريتين الشمالية والجنوبية، أن تمرّ بهدوء في ينابيع أساسية قبل المجاري الإيرانية والسورية وغيرهما من المجاري الفرعية أعني القراءة مجدّداً في إعادة تفجّر ينابيع العظمة بين واشنطن  وموسكو والصين، والنماذج المشابهة لا تحصى في الشرق الأوسط.

أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه

drnassim@hotmail.com

قم بكتابة اول تعليق

Leave a Reply

لن يتم نشر بريدك الالكتروني في اللعن